الأربعاء، 14 مايو 2025

أوقفوا التعاطف مع الجريمة



الحياة نعمة
(الإدارة)،

إن التعاطف التلقائي الذي نبذله مع المنتحرين جزءٌ من المشكلة وليس الحل. فرغم طبيعته الإنسانية، فإنه قد يصبح شرًا كامنًا غير مقصود يدفع البعض نحو الهاوية، خاصة في ظل غياب الدعم النفسي. وهنا نستعرض عدة أسباب رئيسية تجعل التوقف عن التعاطف العلني أو الإعلامي مع المنتحرين وتجريم ذلك ضرورة أخلاقية واجتماعية مُلحة. 

بداية، فإن هذا التعاطف يُغذي الظاهرة، خاصة بين الشباب. فالانتحار قد يبدأ بفكرة عابرة، ثم تتجذر في أذهان من يعانون ضغوطاً نفسية أو اجتماعية عندما يرون المجتمع يمنح المنتحرين تعاطفاً واسعاً. وتخيّل معيَّ شاباً أو فتاة ممن أنهكهم الإحباط أو اليأس أو الوحدة، ثم تأتي تلك القصص الإعلامية أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تصور المنتحر كضحية تستحق الحب. وردة الفعل هنا أن يتخيل المرء أن موته سيمنحه ما افتقده في حياته: الاهتمام، التعاطف، أو حتى "العدالة" الرمزية. إن هذا التصور، وإن بدا غير منطقي، يمكن أن يتحول إلى دافع نفسي قوي يؤدي إلى تبني وجهات نظر مدمرة تغذيها دراما التعاطف المستمر مع المنتحرين، فتستمر في جذب صاحبها نحو القاع إلى أن يصل إلى مرحلة الاستسلام للفكرة، خصوصاً حين لا يتوفر الدعم النفسي المناسب سواء من المختصين أو من المحيطين، وهو أمرٌ في حد ذاته ظاهرة أخرى تتنامى سريعاً في مجتمعنا العربي مع تأثرنا الثقافي والمادي بالفردية والعولمة. وفي هذا الفراغ، يغدو التعاطف العام ملاذاً وهمياً للبعض، حتى لو كان هذا الملاذ يأتي بعد الموت.

إن استمرارنا في تقديم هذا التعاطف بدلاً من تقديم حلول حقيقية يشبه إلقاء الوقود على نار مشتعلة بالفعل. ناهيك عن أن تكرار المشهد يدفع للتآلف معه وكأنه أمر طبيعي يحدث للبعض ويطرح الفكرة على الطاولة لمن هو في حالة ضعف، وللمراهقين، ولمن لا علم لديهم.

أما ثانياً، ودعونا هنا نتحدث بصراحة... فالحقيقة الأخلاقية هنا هي أن الانتحار ليس فعلاً محايداً، بل هو اعتداء على الحياة، وسواء كانت تلك حياة الذات أو حياة الآخر فالأمر واحد. إن الانتحار ليس مجرد "خيار شخصي" أو "هروب من الألم". إنه فعل قتل متعمد، يستهدف الذات بدلاً من الآخر. إن الانتحار هو في حد ذاته جريمة قتل مكتملة الأركان لا تختلف عن أي جريمة قتل يعاقب عليها القانون، إلا أنها لأسباب عملية واضحة تعتبر في حال نجاحها دعوة منقضية بموت الجاني لا وجه لإقامتها، في حين يتجنب القانون صراحة تجريم الشروع فيها ومعاقبة الجاني في حال الفشل لكي لا يكون هناك دافع أكبر للمجرم للحرص على إنجاح جريمته وهو ما تقتضيه روح القانون من الحفاظ على المصلحة العامة.

فلماذا إذن، نميل إلى التعاطف مع المنتحر بدلاً من إدانة فعله؟ ربما لأننا نشعر بالذنب تجاه معاناته، أو لأننا نرى فيه انعكاسًا لإخفاقاتنا الجماعية. لكن هذا التعاطف يخلق تناقضاً: فإذا كنا نرفض قتل الآخرين مهما كانت الظروف، فلماذا نتقبل قتل الذات؟ إن إعادة التوصيف الواضح للانتحار كجريمة وللتعاطف معه كتحريض على الجريمة يبدو خطوة ضرورية لتغيير النظرة المجتمعية تجاهه، حتى وإن كان هذا التوصيف أخلاقياً لا يستوجب العواقب القانونية لاقتضاء المصلحة العامة ذلك.

أما الأمر الثالث وهو الأكثر إثارة للقلق، هو وجود اتجاهات تبدو متعمدة لنشر فكرة الانتحار بشكل غير مباشر. فبين الحين والآخر تنطلق فجأة ما تشبه الحملات الإعلامية المنظمة أو حتى منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن "معاناة المنتحر" بطريقة تجعل منه بطلاً لمأساة ما تُسبغ عليه من وراء ستار هالة البطولة والاستشهاد الزائف، وترسم بشكل غير مباشر صورة رومانسية أو تراجيدية أو إلهامية أو كل ذلك سوياً. ورغم أن بعض هذه الحملات قد تكون مدفوعة بنوايا حسنة إلا أنها غالباً ما تتجاهل جوهر المشكلة وأن الانتحار ليس حلاً، ولا مُبرراً، مهما كانت الظروف. بل إن بعض الأيادي أحياناً تستثير حملات التعاطف الدرامي تلك للترويج لفكرة الانتحار دون تقديم حلول حقيقية وذلك تحت مبررات إنسانية قد تكون صحيحة في ذاتها إلا أنها أولاً لا تعد مبرراً لارتكاب تلك الجريمة وثانياً أنها تُستغل فقط كغطاء للترويج غير المباشر لفكرة الانتحار دون أدنى محاولة حقيقية على أرض الواقع للتعاطي مع هذه المبررات أو إيجاد حلول لها لو صدق أصحابها.

وليس عنا ببعيد خطاب بعض المنظمات أو الأفراد المدافع بشراسة عن الهراء المسمى "الحرية في الموت" أو "حق الفرد في اختيار نهايته"، مستغلين قضايا مثل الفقر أو الاضطهاد أو المرض كمبررات. لكن، أين هي محاولاتهم لمعالجة هذه القضايا؟ إن التركيز على التعاطف مع المنتحرين والدفاع عنهم وتقديم المبررات لهم بدلاً من حل المشكلات التي أدت إلى يأسهم هو نوع من التلاعب الخفي الذي يستحق أقصى درجات العقوبة الجنائية. فحتى المرض النفسي ليس مبرراً للانتحار أو مسوغاً له أو مخففاً من ذنبه، والاستثناء الوحيد هنا هو حالة الجنون التي لا يسأل صاحبها عن أفعاله أصلاً لا في الدنيا ولا في الآخرة.

وهنا وقبل أن أختم لابد من الإشارة أيضاً لجانب آخر للمشكلة، وهو أولئك الذين يُنصبون أنفسهم وكلاء للرحمة أو العذاب ويوزعون صكوك الغفران أو اللعنة على هذا أو ذاك، ولهؤلاء نقول نحن لا يعنينا الحكم على شخص ما بعينه، فكلٌ مقابلٌ ربَّه وواقف بين يديه وهو أعلم به أيا كان عمله، إن ما يعنينا هنا هو رفض الفعل والجريمة نفسها ونقدها وربطها بكل أشكال المفاهيم السلبية التي تنطبق عليه فعلاً ومنها الجبن والضعف والقنوط من رحمة الله. إن ذلك وحده الكفيل ببناء ذلك الحاجز السميك في الأذهان الذي يمنع المرأ من التفكير أصلاً في الأمر ناهيك عن التخطيط له أو الإقدام عليه، مثله كمثل أي جريمة، وذلك دون الخوض في سيرة أفراد بعينهم لا بالحسن ولا بالسوء.

إن الخلاصة هنا هي أننا بحاجة لأن نتوجه نحو موقف أكثر مسؤولية. فالتوقف عن التعاطف مع المنتحرين لا يعني التخلي عن الإنسانية، بل هو دعوة لتحمل المسؤولية تجاه الحياة. فبدلاً من تقديم التعاطف كمكافأة رمزية لمن يختارون الموت، يجب أن نركز على بناء مجتمعات تدعم الحياة: عيادات نفسية متاحة، حملات توعية حقيقية، وثقافة ترفض تبرير الانتحار مهما كانت الظروف. إن تغيير نظرتنا للانتحار من "مأساة تستحق الدموع" إلى "جريمة تستحق المواجهة" هو في الغالب الخطوة الأولى نحو عالم عربي بلا انتحار.

وأخيراً... كلمةٌ لكل من تراوده الفكرة لأي سبب كان... لا تقنط من رحمة الله... لا تستسلم ولا تيأس ولا تكن جباناً، والله يغير من حال إلى حال في غمضة عين... وتذكر أنه حتى الشرك بالله يمكن أن تتوب منه مالم تبلغ الروح الحلقوم، أما الانتحار فهو الذنب الوحيد الذي لا يسعك التوبة منه بعد الإقدام عليه، فأنت حينها من تغلق باب الرحمة على نفسك بيديك.


مشاركة على

أحدث فيديو